لا يتابعون قناة "سبيستون" ولم يسمعوا بمسلسل "ماشا والدب" ولا يلعبون "البوكيمون غو" ولا يقرأون مجلات "ماجد" و "العربي الصغير". يحتفل أطفال العالم بأعياد الميلاد ويتلقون الهدايا وباقات الزهور، ويحتفل السكان في شمال اليمن بـ "استشهاد الأطفال" الذين يُقتلون في الحروب. لا يحصلون على شهادات ميلاد ولكن يوثَّق تاريخ مقتلهم ومكانه أسفل صورهم، التي تتزاحم في مجالس منازل المواطنين في المحافظات إلى أقصى الشمال، التي تُواري جثامين الأطفال في مقابر صارت تعرف بـ "رياض الشهداء"، لتتراجع الأرض المزروعة بالعنب والرمان وتتوسع المساحات المغروسة بالقبور والألغام.
الأرض المنسية
على امتداد الطريق بين صنعاء وصعدة، يتوزع الكثير من الأطفال في نقاط التفتيش التابعة لـ "الحوثيين". محمد حزام أبو شوصا - 15 سنة - ترك تعليمه في الصف السابع بمدرسة النهضة في مديرية حوث بمحافظة عمران ليلتحق بـ "مسيرة أنصار الله". يقول إنه لا يحب مادتي الرياضيات واللغة الإنكليزية، لكنه يجيد استخدام بندقية Ak107 ويستوقف السيارات والشاحنات للتفتيش في نقطة حواري شمال مدينة حوث، كواحد من حراس الضاحية الشمالية للحوثي التي لا يوجد فيها حدائق للألعاب، فيما شاشات التلفاز تشاهَد في بعض المنازل لساعات محدودة، في مجالس الكبار المنهمكين في تعاطي "القات" ومتابعة أخبار الحرب. ومصدر الطاقة الكهربائية ألواح تخزين الطاقة الشمسية التي يحرص الأهالي على توفيرها للإضاءة.
كل الطامعين في السلطة، منذ قرون وإلى اليوم، يتعاملون مع السكان في الشمال كمخزون ذخيرة، وكل الفئات العمرية تروي سير الحروب والصراعات في طفولتها. يقابلك الصغار هنا في محافظات شمال صنعاء ببنادق خشبية اقتطعوها من أعواد الاحتطاب، يصوّبونها إلى الأعلى لحظات سماعهم صوت طائرات التحالف الذي تقوده السعودية، والتي قال مدير مكتب التربية والتعليم في صعدة إنها دمرت 156 مدرسة في المحافظة.
وعند سماع أصوات أبواق بائعي الآيس كريم، يخرج الأطفال من منازلهم لا يحملون نقوداً ولكن يقدمون الرصاصات الفارغة وشظايا صواريخ الطائرات ثمناً لقطعة حلوى مثلّجة. بسام المصعبي يبيع شوكولاتة الآيس كريم بـ 5 أغلفة فارغة لرصاص الكلاشينكوف، والعلبة بـ 20 عبوة فارغة. يبدأ يومه مع عشرة من زملائه بالقدوم باكراً من مدينة عمران، والنزول في مدخل مدينة صعدة، كل واحد منهم يقصد عزلة وفق خارطة عمل متفق عليها. يقول بسام: الأهالي هنا فقراء ونضطر للتعامل مع محلّات شراء المعادن المستخدمة وعلب البلاستيك الفارغة، كما نشتري شظايا القذائف من الأطفال. الكيلو بـ 200 ريال يمني، وعند تجميع كمية منها نبيعها لمحلات الحدادة بأرباح بسيطة.
الموت حدث شائع
موت الأطفال في هذه الرقعة حدث شائع. الناشط الحقوقي يوسف المفتي يقول إن الحروب منذ العام 2002 وحتى العام 2016 خلفت في محافظة صعدة أكثر من 100 مقبرة، معظم الضحايا فيها من الأطفال. كما يموت العديد منهم هنا بسبب سوء التغذية والإسهال والحصبة. يقول الدكتور خالد ناصر البكري، طبيب الأطفال في المستشفى الجمهوري بصعدة، إن المستشفى يستقبل في اليوم الواحد منذ بدء "العدوان السعودي" ما يقارب عشر حالات من الأطفال المصابين بسوء التغذية والذين يحتاجون إلى رقود وعناية مركزة. وأكّد أنه وفد إلى المستشفى خلال شهر تموز/ يوليو الماضي ما يقارب 320 حالة، استقبل منها 123 حالة، وتمّ إرسال البقية إلى المحافظات المجاورة أو جرى تأخير استقبالهم حتى يحين دورهم، فضلاً عن استقبال 130 طفلاً مصابين بمرض السعال الديكي، لافتاً إلى أن القدرة الاستيعابية لقسم الأطفال في المستشفى لا تتجاوز 42 سريراً ويعاني من انعدام الكثير من الأدوية بعد تعليق منظمة أطباء بلا حدود عملها في المستشفى ووقف الدعم الذي تقدّمه احتجاجاً على استهداف طيران "التحالف" لمستشفى عبس في محافظة حجة وقتل وإصابة عدد من المدنيين. وفي منتصف آب/ أغسطس، قصف طيران التحالف الذي تقوده السعودية مدرسة دينية في مديرية حيدان بصعدة، أودت بحياة 14 طفلاً اختلطت أشلاء أربعة منهم فتمّ وضعها في طربال من البلاستيك يستخدمه المزارعون عادة لحفظ محاصيلهم من الأمطار، ودفنت في قبر جماعي بـ "روضة الشهداء" ووضعت أحزمة من الزهور القماشية على الضريح الذي يسمى هنا "المعفدة". ندّد عدد من المنظمات بالجريمة ودعت يونيسيف في بيان لها أطراف النزاع إلى التمييز بين المدنيين والمقاتلين في جميع الأوقات، واحترام التزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي.
لكن أطراف الصراع لا تكترث كثيراً لسقوط الضحايا، فالجميع شارك في قتل الأطفال. ناطق "التحالف" قال إن الطيران استهدف "مجنّدين أطفال". والحوثيون الذين نددوا بالجريمة قاموا باستغلال الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم الـ16عاما بإلحاقهم في مدرسة الإمام الهادي بحيدان، لا لتلقي علوم العصر ولكن لتلقينهم "مَلازم السيد حسين الحوثي" مؤسس الحركة، وهي مجموعة محاضرات ألقاها قبيل مقتله في العام 2004 وتمثل المنهج الفكري لأنصاره، وهي في مجملها تحريض على القتال وترغيب في الموت و "الشهادة " في سبيل غاية لا يعرفها الأطفال.
أحلام مؤجلة
بسبب وطأة الحرب وكثافة غارات الطيران، لم يذهب الكثير من التلاميذ الى مدارسهم خلال العام الدراسي 2015 – 2016، لكن قاعات الامتحانات في محافظة عمران اكتظت بالتلاميذ النازحين من صعدة، وغالبيتهم من المديريات الحدودية مع السعودية حيث القصف البري والجوي دمر عشرات القرى التي لا تصلها المنظمات الإنسانية. ولم ينقشع غبار المعركة بعد حتى تنكشف جرائم الحرب التي ارتكبت بحق المدنيين في تلك البقاع. يشكو التلاميذ تعذر انتظامهم في التعليم ويتطلعون للانضمام إلى الدولة التي لم تضع هذه الجغرافيا على خريطتها طوال العقود الماضية. في وقت لا تخلو مديرية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين من "مركز ثقافي" يستقطب الأطفال ويزودهم بـ "المَلازم والزوامل" والمطبوعات المحشوة بخطب الحرب وأخبارها.
تبحث في رفوف المنازل عن كتاب أو مجلة قد تُساهم في كسر طوق العزلة عن السكان، فتجد مخلفات حقبة نفوذ السلفيين والإخوان المسلمين: إصدارات "مركز دماج" السلفي وفتاوى ابن باز وابن عثيمين، و "آيات الرحمن في جهاد الأفغان" و "الخميني في ميزان الإسلام".. وجميعها أدلة إدانة على تناوب الجماعات والحركات الدينية في استغلال الإنسان هنا، حيث تحتفظ الكثير من الأسر الفقيرة بالزيّ المدرسي لأبنائها من عام لآخر، ويتشارك في الكتاب الواحد أكثر من تلميذ في المدارس الحكومية.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية "و"السفير العربي"]